Monday, November 30, 2009

مصر - الجزائر :ماذا بعد؟


أعتقد أن الأمور قد هدأت الآن إلى حد كبير وبدأ الناس يفيقون تدريجياً، بعد أن أسكرتهم المعركة - المهزلة - المفتعلة بين مصر والجزائر والتي انزلق إليها الكثيرين فسقطوا في نظر العقلاء، ومن هذه التجربة المريرة أود أن أضع ملخصاً يضم بعض الدروس المستفادة، وأرجو أن يكون في ذلك عبرة وفائدة:

أولاً: نستفيد من انشغال الناس بهذه المباراة والأحداث المصاحبة لها أن الناس تعاني من فراغ كبير جداً في الناحية الحياتية والروحانية، فلما جاءت هذه المباراة وجدت أنفساً خاوية، وأناساً لا يجدزن شيئاً يشغل أوقاتهم، فملئوها بالاهتمام بهذه المباراة، وصوروا الأمر على أنه حلم وطني ، وأن كل واحد يجب أن يفعل شيئاً لمساندة منتخب بلاده، وإلا كان هذا انتقاصاً من وطنيته، وقامت عشرات الحملات على المنتدات والمدونات والفيس بوك وغيرها، كلها تدعو إلا أشياء سخيفة ومتشابهة، فهذا يدعو إلى إقلاق راحة المنتخب الجزائري ليلة المبارة ليحرم لاعبوهم من النوم، مدعياً إن ذلك هو ما حدث مع منتخب مصر في مباراته هناك، وآخر يطالب بمنع السيدات والفتيات من الذهاب لحضور المباراة بدعوى أن المطلوب هو حضور الشباب القادر على التشجيع الحماسي بدون انقطاع وهو ما لا تقدر عليه الفتيات، والعشرات يقومون بتصميم الشعارات واللوحات التي تبشر بتحول استاد القاهرة إلى استاد الرعب واستاد الموت وأشياء من هذا القبيل، ومثل ما حدث هنا في مصر حدث هناك في مصر، الكثير من هذا الغثاء بدعوى تحميس المنتخب للفوز ومساعدته بتحميس الجمهور وإصابة المنافس بالإحباط،، ويتطور ويبدو أن العيار بدأ ينفلت، فأخبار تنتشر هنا وهناك، مرة يضع هؤلاء صورة المنافسين على صورة مسيئة أياً كانت، ويرد هؤلاء بالمثل ويزيدون عليهم، وتظهر عشرات من قصاصات الجرائد والمجلات، وصور مأخوذة من المواقع وغير ذلك من ملفات الفيديو على اليوتيوب وغيرها، وكل طرف يصعد ضد الآخر، وكل من له في الحدث ومن لا علاقة له به دخل في المعمعة، أو أقحم فيها، مرة تصريح منسوب لفنانة عربية لا هي مصرية ولا هي جزائرية، تؤيد فيه أحد الطرفين، فيرد بعض الأفراد والصحفيين بالمطالبة بمقاطعتها وما إلى ذلك من هذا الهراء، . . . . . المهم أنك لو ابتعدت عن الصورة قليلاً ونظرت إليها من مسافة مناسبة فستظهر لك حقيقة واضحة، أن ملايين الشباب هنا وهناك لم يكن لديهم ما يشغلهم سوى هذه المباراة.

ثانياً: فضحت هذه المبارة الصحافة والإعلام من الطرفين، وإن كان الإعلام الجزائري (أو بعض مصادره على الأصح) قد تفوقت على الإعلام المصري في السقوط إلى الهاوية، ولم أعلم حدثاّ نشرت حوله الأخبار الكاذبة بهذا القدر منذ زمن بعيد، ومن الغريب أن بعض هذه الأخبار كان مفضوح الكذب ولا فائدة ترجى من نشره، لأنه لا يخدم أي أحد ولا حتى وقتياً، ومن هذا القبيل كان خبر تصريحات الرئيس الفرنسي التي افتكسها شخص ما على أحد المنتديات ونقلتها عدة مصادر بل ونسب البعض الخبر لنفسه، وثارت ضجة حول الموضوع، وأخذ الناس في التندر على مثل هؤلاء المخابيل الذين ينقلون مثل هذه الأخبار المفبركة دون بذل أي جهد للتحقق منها، بل ونسبتها لأنفسهم بدون حتى الإشارة إلى مصادرها الأصلية ليحموا أنفسهم من تبعات عدم صحة الخبر.
وبمجرد فوز مصر على زامبيا وظهور تأجيل الحسم إلى مباراة القاهرة بدأت التساؤلات عن ماذا سيكون الموقف لو وصل الفريقان إلى التعادل التام في كل شيء، ولم يعرف أحد الإجابة يقيناً، وحاول بعض اإعلاميي القنوات الرياضية الوصول إلى قواعد الفيفا في مثل هذه الأحوال ، وبدأ هناك من يقول تحتسب نتيجة مباراتي الفريقين مع بعضهما بقاعدة الهدف على ملعب المنافس بهدفين، وآخر يقول القرعة، وثالث يقول مباراة فاصلة، وهذا يدعي أن مصدره موقع الفيفا، وهذا ينسب الكلام لمسئول في الاتحاد الدولي، ويظهر خبر على أحد المواقع الرياضية عن أن الكاف قد حسم الأمر منذ أكثر من شهر بإقامة مباراة فاصلة على أحد الملاعب في ألبانيا، والطريف أن كاتب الخبر المذهل أخذ يتفنن في كيف أن أحد المهندسين التابعين للكاف هو من اختار هذا الملعب بعينه لأنه يقع على مسافة متساوية مع كل من القاهرة والبليدة، ويسخر أخونا من تخبط الرياضيين وجهلهم بهذه المعلومة (وكأنها معلومة من الدين بالضرورة)، بل ويطالب القراء بالبحث عن الخبر على موقع الكاف ووكالات الأنباء العالمية، وينتشر الخبر على عشرات المواقع، ولم يحاول أحد التحقق من صحته، كل الحكاية (كوبي آند بيست)، وبحثت عن الخبر فلم أجد له أثراً، وحاولت الوصول إلى المصدر الأول له لكن لم أفلح في ذلك ولم أهتم كثيراً، وتوقعت أن المسألة ستكتشف سريعاً ويعود أصحاب المواقع لإزالته والاعتذار عن ذلك، ولكن يظهر في بعض القنوات من يؤكد الخبر وينشر صورة للمهندس المزعوم، بل ويأسف لصغر سعة الملعب المشار إليه، وما لبث الأمر أن اتضح أن الاتحاد الدولي أرسل لاتحادي مصر والجزائر لاقتراح أماكن لاختيار أحدها للعب المباراة الفاصلة إذا دعت النتيجة لذلك، إذن كان الخبر الأول غير صحيح أيضاً، وبدأت الأخبار تتوالي من هنا وهناك ولا أحد يتحقق من شيء، والكثيرون يتسابقون نحو الفبركة والاختراع، فكل جريدة تريد أن تزيد مبيعاتها، وكل موثقع يريد أن يزداد عدد المترددين عليه، ولا أحد يراعي أصول المهنية المفترضة، حتى وصل الأمر إلى اختلاق خبر مقتل مشجعين جزائريين على أيدي الجماهير المصرية، وما تبع ذلك من أحداث متتاية ومتسارعة أدت إلى ما وصلنا إليه للأسف، وهذه الأخبار المختلقة هنا وهناك بقدر ما تحط من قدر الذين ساهموا في تأليفها ونشرها، فهي أيضاً تفضح كل من سلم بها وبنى عليها رد فعله دون أن يتروى ليتحقق من الخبر قبل أن يشرع في نقله على مدونته أو منتداه أو الرد عليه وقبل أن يقرر أن يتصرف على أساسه، ويكشف أننا - أي مصر والجزائر ومعنا كل العرب للأسف - شعوب تغلب عليها السذاجة والإمعية ، وكفاية كده علشان ما نقعش في الغلط، بس نصيحة للجميع العمل بالمثل الياباني الذي يقول: إذا كنت تصدق كل ما تقرأ فمن الأفضل ألا تقرأ.

ثالثاً: عرفت من هذه الأحداث أنه بالنسبة للكثيرين أسهل شيء ممكن أن تعمله لتدعم رأيك أو موقفك في أي مناسبة أو موقف هو التلفيق، انت متضايق من واحد ممكن تيجي جنبه وتقول آي ضربني وكان عايز يموتني، وما فيش مانع تعور نفسك أي تعويرة علشان تعمل منظر قدام الناس علشان يصدقوه، وهو ده اللي حصل في أغلب المواقف اللي شهدتها الأحداث، مع استثناءات قليلة تم استغلالها وتضخيمها بشدة، ولا أخفي أنني صدمت مبدئياً لعدد الفيديوهات الملفقة التي رأيتها عندما دخلت على اليوتيوب، وحتى التلفيق وصل لعناوين الفيديوهات، مثلاً تلاقي واحد حاطط فيديو عنوانه شاهد اعتداءات الجزائريين على المصريين، وتفتح تلاقي مشجعين مصريين بيشتموا الجزائر، وكذلك العكس، وفي هذه النقطة أيضاً أشهد بالبراعة للأخوة الجزائريين الذين تفوقوا علينا في هذا المجال أيضاً، وكان من السهل اكتشاف تلفيق أكثر الفيديوهات لو نظرت إليها بعيد ناقدة أو تقمصت شخصية مفتش مباحث مثلاً.

رابعاً: سيادة ثقافة ركوب الموجة على أغلب المشاهير سواء من الإعلاميين أو الرياضيين أو الفنانين بل وبعض السياسيين، يعني من الآخر لقيتوا الناس متضايقة وغضبانة من أحداث السودان ومن الهزيمة وضياع الحلم اللي كانوا مستنيينه، فبدأتم في الهجوم على الجزائر وجماهير الجزائر، وكل واحد يطلع يتكلم عايز يظهر إنه هو الأكثر وطنية، فبدأت الأفكار المجنونة كلها تطلع، واحد يقول نقطع العلاقات، والتاني يقول نطرد السفير، وتحول الأمر إلى مزاد لحد ما وصل الأمر بواحد مذيع كان شكله عاقل بس طلع فعلاً مجنون، لدرجة إنه قال ناخد الجزائريين الموجودين في مصر رهائن لحد ما نطمئن على سلامة المصريين اللي في السودان والجزائر، و غيره طلب بإرسال قوات كوماندوز للسودان لتحرير المحتجزين المصريين هناك، ولوكان عندنا سلاح نووي كان هناك من سيطالب بإلقاء قنابل نووية على الحزائر، وبدا كأن الجميع أصيبوا بالجنون، واستمر هذا المزاد طويلاً وحرص كل مقدم برنامج على أن يكون برنامجه هو الأبرز في الهجوم على الجزائر، والمطالبة بالتحرك وكفاية كده ، وخلاص ماعادش ينفع نسكت، وأهم حاجة في الدنيا كرامة مصر، وأصبح كل من يقول نتكلم بالعقل ياجماعة ، أو اهدوا شوية، أو يا جماعة ماينفعش كده، كل واحد يقول حاجة كده بقى هو الخائن، اللي ما بيهموش بلده أو اللي باعها وقبض الثمن، وغير ذلك من مفرادات القاموس إياه، ولم يقف ركوب الموجة عند التصريحات والمقالات فقط، بل وصل إلى حد الاعتذار عن تنظيم بطولة افريقية لكرة اليد ستقام في فبراير القادم - على ما أظن - بسبب وجود منتخب الجزائر بها، برغم ما في ذلك من احتمال التعرض لعقوبات، وانتقاص من سمعة مصر الدولية، ولا أدري هل صدرت قرارات أخرى هوجاء من هذا القبيل أم لا لأنني لم أتابع الصحف جيداً منذ فترة، ومن الطريف أنه في ظل ركوب الأمواج وغناء كلٍ على ليلاه قيل الكثير من الكلام المتناقض، المعارضين يقولوا لك ولاد الريس سابوا المصريين بينضربوا وهربوا على أول طيارة، والتانيين يقولوا إنهما رفضوا يسافروا إلا لما اطمأنوا على تأمين المصريين في السودان وكمان خدوا عدد كبير منهم معاهم على الطيارة، وناس يقولوا الجزائريين دول مش عرب، دول بربر، دول أمازيغ، دول مابيعرفوش يتكلموا عربي، وناس تانية (بتوع الاحتلال العربي لمصر) تقول شفتم ، هما دول العرب الهمجيين الدمويين بانوا على حقيقتهم، وكل واحد حاول يستغل الموضوع بما يخدم مصلحته.

خامساً: سقوط الأقنعة عن الكثير من الوجوه التي كنت أحسبها عاقلة ورزينة ، ولم أكن بالضرورة أحبها ولكن كنت أكن لها بعض الاحترام، فقد وصل بهم الأمر إلى تجاوز كل الحدود والإساءة إلى شعب بأكمله، واستخدام ألفاظ نابية والمعايرة وتهييج الجماهير بطريقة حقيرة، وللأسف أكثر هؤلاء من المصريين، وهذا يقودنا إلى سادساً.

سادساً: ماذا نعرف عن الجزائر؟ بالنسبة لأكثر جيل الشباب ممن هم أغلب جمهور الكرة، كل ما نعرفه عن الجزائر هو أنه فريق كرة قدم، وربما نعرف اسم فنان أو اثنين من الجزائرونجد صعوبة في فهم لهجتهم مع أنهم يتكلمون العربية، لكن هل نعرف شيئاً غير ذلك عنهم، أراهن أن أكثر الشباب الذين اندفعوا إلى الشوارع يحملون الأعلام والطبول ويلونون وجوه المارة بألوان علم مصر قبل وبعد مباراة القاهرة، أراهن أن أكثر هؤلاء لا يعرف ما هي عاصمة الجزائر، ولا ما هي عملتها، فضلاً عن أن يعرف أهم نشاط اقتصادي فيها، ما هي أهم مشاكلهم الاجتماعية، كم واحد من هؤلاء يستطيع أن يذكر اسم عالم جزائري، أو شاعر أو أديب جزائري، وربما لا يعرف البعض مكانها على الخريطة، وهذا الجهل المشين كان أحد العوامل التي أدت لتضخم هذه الأحداث، فمعظم المصريين لا يعرفون سوى أن الجزائر فريق كورة، وهذا الفريق دائما ما يستفزنا بلعبه الرذيل، وكمان جمهورهم ضرب جمهورنا أو حاول الاعتداء عليه بالأسلحة البيضاء، فالنتيجة المنطقية لمجموع هذه المعطيات هي أن الجزائر شر مطلق، وهي الشيطان الرجيم في صورة بلد.

يكفي هذا القدر الآن وربما أستكمل الحديث لاحقاً.

No comments:

Post a Comment

ad